تقول الباحثة الألمانية الدكتورة سيجفريد هونيكيه (2) في كتابها ( فضل العرب على أوروبا إن العرب قد حملوا رسالة عالمية وأن الدين الذي في عنق العالم للعرب كبير . إن العرب أصحاب نهضة علمية فاقت كثيرا ما تركه اليونان أو الرومان . فقد بقوا ثمانية قرون يشعون على العالم علما ,ادبا وفنا ، وهم الذين أخرجوا أوروبا من الظلمات إلى النور . وتضيف قائلة : إن المثل الإسباني هو أكبر دليل على ما أقول . فقد أصبحت في غضون مائتي عام من الوجود العربي فيها ، بلدا غنيا متقدما ، ارتفع مستوى حياة شعبه ، وانتشر فيه التعليم وازدهرت الثقافة بين سائر طبقاته ، فأضحت إسبانيا علميا وفنيا أرقى من سائر الدول الأوروبية . وصارت مثلا يحتذى وهدفا يقصده طلاب المعرفة من كل فج ، وظلت تحمل لواء العلم والمعرفة خمسمائة عام .
وقد عرفت إسبانيا كيف تتلقى وتنقل الثقافة العربية التي ورثت الثقافات القديمة اليونانية والفارسية والهندية إلى أوروبا .. إن القول بأن دور العرب لم يتعد دور ساعي البريد الذي اقتصر على نقل التراث القديم إلى أوروبا عن طريق إسبانيا ولم يأت من عنده بجديد هو افتراء . فإن ما وجده العرب عند الأمم الأخرى لم يكن كافيا لسد حاجاتهم وإرضاء طموحاتهم فأقبلوا على البحث والتنقيب الذاتي ، فكان لهم إنتاج وافر في مختلف النواحي العلمية والفنية والفلسفية . .
غير أن أعظم آثار الحضارة الأندلسية أو إسبانيا المسلمة هي الإنجازات العلمية والثقافية ، وهي التي كونت حضارة الأندلس(2) ورسخت جذورها ، وجعلت تأثيراتها عظيمة على البلاد التي حولها ، فأصبحت مركز إشعاع للعلم والمعرفة ومحجة يقصدها طلاب العلم من كل حدب وصوب . .. ولا شك بأن الإقبال على الثقافة والعلم يتطلب العناية بالكتب والحصول عليها . لذا فقد شغف الأندلسيون عامة وأهل قرطبة بشكل خاص باقتناء الكتب .فكان وجود مكتبة في كل منزل ، من مستلزمات الحياة الإجتماعية والثقافية كان في قرطبة سوق لبيع وشراء الكتب . أما المدارس والمعاهد التعليمية فقد كانت منتشرة في كل مكان ، وكان الطلاب يقطنون فيها ، كما يتناولون في معظم الأحيان مرتبات شهرية ، لسد حاجاتهم ونفقاتهم الخاصة . أما الطريقة العادية لطلب العلم فهي التوجه إلى الجامع . فالمساجد ليست للعبادة فحسب ، بل هي دور للعلم أيضا .
إزدهرت الجامعات في الأندلس منذ القرن التاسع م ، وصارت تجذب المتعطشين للعلم من سكان أوروبا . ومن أشهر الذين تخرجوا منها جيربيرتودي أوفيرنيا الذي جلس على كرسي البابوية فيما بعد باسم البابا سيلفنستري الثاني .
وصل طليطلة جورد فون كريمونا موفدا من قبل ملك صقلية (3)، لترجمة كتاب الماجسطي المشهور لبطليموس ، ولكن ما إن حلّ في الأندلس حتى استولت عليه الدهشة من علو شأن هذه الثقافة التي أصبحت بمتناول يده ، فبقي مدة عشرين عاما في الأندلس ، ترجم خلالها أكثر من ثمانين كتابا إلى اللاتينية . وما كادت أوروبا تتسلم هذه الثروات القيمة من العلوم والمعارف حتى تفتحت العقول فيها وجاءت بنتائج خيرة ، فبدىء بإنشاء الجامعات العلمية وكان أولها جامعة ساليرنو الطبية في إيطاليا ، ثم تدفقت هذه الينابيع الى مونبيلييه وأوكسفورد وغيرها ، وكانت هذه الجامعات تستخدم الكتب العربية المترجمة إلى اللاتينية.
Y.A