تلوثت يدي بدماء الموتى.وتقاطرت بعض حبات العرق على جبيني وأنا أواريهم الثرى..تقبلت هزيمتي..وحملت معولي وحفرت ثلاثة قبور تراصت بجوار بعضها...كقوارب ترسو أخيرا في الميناء تنتظر أن تمتلئ بحمولتها ..التي لن تقدر على حملها..وتعامدت شمس الظهيرة فوقي تنبهني إلى أن النهار ينقضي..فأسرع في الحفر..حتى أنتهي قبل الغروب...تحديدا قبل هروب الشمس من السماء خوفا من القمر وعتمة الليل..حتى تتركني وحيدا ..أبكيهم
وكان القبر الأول من نصيب أخر الموتى ..قبر تعمدت أن أتعمق في أرضه ...حتى خارت قواي من حفرة...وهذا دفنت فيه قلبي...الذي كان أخر شهدء المعركة الملحمية التي دارت أحداثها..مع بداية أول ثقب فيه...ذلك الثقب الأسود الكوني الهائل الذي إتسع بداخله فألتهم نبضه..وتغذى على دمه...إلتفت شرايينه على يدي ..وسجدت تحت قدمي أوردته..ترسل إليا ندائات الإستغاثة التي لم ألقي لها بالا..لقد كان قلبي يلفظ أنفاسه الأخير وقتها..ولم أنتظر حتى يموت بل قتلته...نعم أزهقته..لم أعد أحتمل أن أرى أنينه وعذابه..طالت الليالي التي كن ينوح فيها كطفل صغير ...ألقته أمه في الشارع خوفا من العار..لأنه إبن زنا...الأن أهيل عليه التراب ..بعدما تأكدت أنه لن يعود إلى الحياة..لن ينبض من جديد
وضعت على شاهد هذا القبر...مات لأنه لم يحتمل فكرة أن يحب غيركي
الأن يجب أن أسرع أكثر فلا وقت للراحة..فالقبر الثاني يجب أن يكون أعظم وأعمق ...لإن الذي سيدفن فيه هو إله الآلهة...زيوس هذا العصر...حكيم الزمان..الذي طاش..رصعت قبرهُ ببعض من كلماته...فأنا لن أهيل عليه التراب..بل سأبني قبره..من القرميد تتراص أحجاره لترسم تعابيره..لتحكي معاناته..لتشق في طريقها طريقا لذكرياته..إنه ليس قبرا..بل سجن..أضع فيه هذا العقل ..الذي جُن بعد الحيل..قتلته التساؤلات..وذبحته الشكوك..وقطعت أوصاله الإتهامات...إلى أن فقد الإله كل قدرة يملكها...وداعا أيه العقل يكفيك هذا
(وقد كتبت على شاهد قبره آخر كلمات قالها...(لم أعد أحتمل ..الشك فيروس لعين دخل جسدي دون علمي فقتلني
وقبر ثالث للمسكينة التي لم تحتمل ألم فراق ..أخويها..مرهفة الحس..فاتنة الزمان..ملكة على عرش النسيان..حملتها على يدي وقد إعتصرني الألم..تسابقت الدماء لتخرج من فمي..تذكرت أني مريض..وأن الطبيب اللعين حذرني من أن أجهد جسدي..لأنه لم يعد يحتمل..ولكن تبا للمرض لا بد أن أنتهي مما بدأته..يجب أن أمحو أثار الملحمة التي فقدت فيها كرامتي..وضعتها في قبرها وبحذر شديد.. أغلقت قبرها بعد أن وضعت فيه شموع المغفرة..ونثرت فوقها زهور البنفسج ..التي شابهتها جمالا..
وعلى شاهد قبرها كتبت رثاءها..رحيل من عالم الخوف إلى عالم الضياع
ماتوا جميعا لأني لم أجد قراءة الأقدار...لن يهمني بعد اليوم رحيل أو بقاء أحدهم..فقد مات أعز من كنت أملكهم